ربما، لقاءٍ ثانٍ
كتبت: مريم البرنس
محررة
تسائلت كثيرًا مثلك يا إيمان، هل يتطلب منا الشيء أن نبلوه حتى نتحقق منه؟ وهل يعرف الإنسان ما لم يختبر أبدًا؟ لطالما ظننت أن الإنسان إذ يحيا، يختبر كل شيء ولو ظن أنه لم يفعل. فالحياة في ذاتها هي ما نشعر به، وليس ما نعيشه. لو أنه أحدهم سأل جاره الذي بلغ من العمر عتيًا أن يقص عليه حياته، فإنه لن يخبره عن الأيام التي مرّت مرور الكِرام، تلك التي لم يكن فيها لا فرح ولا ترح ولا حتى ضجر. سوف يخبره عن يوم تلقّى خبر نجاحه، وأيضًا عن يوم تلقّى خبر انقضاء نحب عزيز لديه. سوف يخبره عن يوم التقى حبيبته، وأيضًا عن يوم ضيّعها.
لسوف يقضي ساعات يتلو عليه كيف كانت تلك الأيام التي أفلس فيها عصيبة، وعن لمعة أحداقه حين عرض عليه أحدهم وظيفة جديدة، وعن قنوطه عندما علم أن الأجر غير مجزٍ وعن تحرقه شوقًا ليوم الترقية وكيف عمل جاهدًا لها، لأنه بعد أول مولود له صار يرى الدنيا بعين القلق وفي نفس الوقت بعين الأمل.
سوف يحكي الرجل كل ما شعر به، وسوف لن يحكي كل ما عاشه، لأنه كل ما مر دون أن يحمل لنا شيء تتجاوب معه مشاعرنا وتخفق لأجله قلوبنا وتعكسه حواسنا…منسي. لبعض المشاعر سلطان علينا، بعضها نُعنوِن به حيواتنا، فإذا اخترنا أن نحسب أعمارنا بساعات الحزن كانت قصيرة، وإذا اخترنا أن نحسبها بلحظات السعادة.. كانت أقصر.
ليس الأمر أننا تعساء لذا فإن لحظات السعادة قليلة، ولكن الحق أننا نخلط شدة الغبطة، ذروة الانتصارات، دوي الضحك، الفرحة العارمة، صخب الصحبة، وفُجأة الفرج بالسعادة. إنما هي ليست شعور لحظي، ليست ساعات تنقضي أو ردود فعل لا تتجاوز الحناجر والقسمات. إنما هي حالة لها خواصها ومستجلباتها التي لا نطالها بفهم قاصر لا يستبين سوى جلي الأثر ولا يعرف سوى جارف الشعور.
ولذا، بدأتُ أتعرّف على مفهوم السعادة من منظور أهدأ وقعًا، أخف حِدّة، وأقل وطأة. صارت السعادة بالنسبة لي شعور ناضج هادئ ينساب في المُهَج كجدول يعرف مساره ومبتدأه ومنتهاه، أو مثل يمٍ خشوع ذو موج رخيم يغمر المرء في رفق وعذوبة. شعور ليس بزائر أو غريب يطرق جوانحنا فتنفتح له دون سابق معرفة. إنما هي أقرب لشيء نولد به وفي الطريق ننساه، وعندما يطفو مجددًا فنراه…نعرفه ونستأنسه.
مثلًا كأن نسير في بلدة غريبة فتعصف بجوفنا رياح الوحشة والاغتراب، إلى أن يستوقفنا وجه عميق.. ينضح سكينة وسلامًا، لا تكمن جاذبيته في تلك المحيا أو ذاك الجسد، إنما في باطنه الذي نستشفه من وراء حُجُب وسُتُر. وجه نعرفه جيدًا ولو لم نلتقيه من قبل، وجه نشعر أننا فقدناه مُرغمين في إحدى المنعطفات، أو ربما هو من قلى واستغنى. ثم يضل بصرنا هذا الوجه مجددًا فنطارده .. نرى وجوهًا تشبهه فننخدع فترة بما وجدنا، ثم يتبين الحق وعندما نعي ذلك.. يكون هذا الوجه قد تلاشى وسط الحشود.
لربما السعادة هي شيء أحسه آدم في النعيم وأُرغِم على تركه حين آن الرحيل، ولذلك كان هو يعرفها، وكذلك نحن من بعده نشعر أننا صادفنا ذاك الشعور من قبل لكن لا نعرف متى وأين ولا كيف نسترده متى أردنا.
أظن أنها شيء أبيّ وعصيّ على الامتلاك والحيازة، شيء يتجاوز مقدرتنا ومنتهى سعينا ولا نعرف حتى أين نُفتّش عنه. لذا لسنا نملك إلا أن نبحث عنها وسط الزحام ونرتضي تلك اللحظة من الحياة التي فيها يلوح ما نقفوه منذ الميلاد. ولكنني دومًا تسائلت لو أن البعض لم يلح له أبدًا هذا الوجه، ولكم سيكون من المؤسف ألا يتجلّى لأحدهم ولو لمرّة. ولكن ماذا لو نسير معه جنبًا لجنب ثم نفارقه دون أن نعرف أبدًا أننا تصادفنا.. هل يستوي أبدًا اللقاء والتلاقي؟.. صدقًا يا إيمان لا أمتلك سوى مزيد من الأسئلة.