Opinionالقافلة

لأننا في بعض الأوقات نشتاق للعزلة

كتبت‭: ‬نوران‭ ‬الشري

مديرة‭ ‬تحرير‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية

أجلس‭ ‬في‭ ‬شرفة‭ ‬منزلنا‭ ‬الصيفي‭ ‬وقد‭ ‬مر‭ ‬على‭ ‬جلستي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ساعتين‭ ‬متتاليتين‭ ‬أستمتع‭ ‬فيهما‭ ‬بجو‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬البرودة‭ ‬المحتملة‭ ‬وأملأ‭ ‬أذناي‭ ‬بصوت‭ ‬أمواج‭ ‬البحر‭ ‬البعيدة‭ ‬وأستنشق‭ ‬الهواء‭ ‬الممزوج‭ ‬برائحته‭.‬

اشتقت‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬بالاسترخاء‭ ‬دون‭ ‬توتر‭ ‬الدراسة‭ ‬والعمل‭ ‬والتفكير‭ ‬في‭ ‬عشرات‭ ‬الواجبات‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬إنجازها‭ ‬والمُتأخر‭ ‬بعضها‭. ‬اتخذت‭ ‬قرارًا‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬أجازة‭ ‬الربيع‭ ‬أنني‭ ‬سأمتنع‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬التفكير‭ ‬فيه‭ ‬لمدة‭ ‬معينة،‭ ‬فطبيعة‭ ‬شخصي‭ ‬تكره‭ ‬الضغوطات‭ ‬وتحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الهروب‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬آن‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭.‬

أتذكر‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬صباح‭ ‬وصولي‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬لقضاء‭ ‬الأجازة‭ ‬محدودة‭ ‬الأيام،‭ ‬تفاجأت‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬والاتصالات‭ ‬من‭ ‬أصدقاء‭ ‬عدة‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬أرسلت‭ ‬رسالة‭ ‬عنيفة‭ ‬وأنانية‭ ‬لأحدهم‭ ‬قائلة‭ ‬أنني‭ ‬أحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إجازة‭ ‬ليومين‭ ‬فقط،‭ ‬فسأغلق‭ ‬هاتفي‭ ‬لبضع‭ ‬ساعات‭ ‬ويمكنهم‭ ‬التواصل‭ ‬معي‭ ‬على‭ ‬هاتف‭ ‬أخي‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الضرورة‭ ‬القصوى‭ ‬فقط‭ ‬وأن‭ ‬ليست‭ ‬لدي‭ ‬السعة‭ ‬النفسية‭ ‬لتحمل‭ ‬تلك‭ ‬الدراما‭.‬

أصبحت‭ ‬أفتعل‭ ‬حركة‭ ‬الهروب‭ ‬تلك‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أحتمل‭ ‬الضغط‭ ‬الواقع‭ ‬عليّ‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬أستطيع‭ ‬مقابلة‭ ‬توقعات‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬بالصمود‭ ‬والتواجد‭ ‬الدائم‭ ‬لحل‭ ‬المشكلات‭ ‬وإنقاذ‭ ‬المواقف‭. ‬أغلق‭ ‬هاتفي‭ ‬ليوم،‭ ‬أتهرب‭ ‬بالنوم‭ ‬لساعات،‭ ‬أعتذر‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬الرد‭ ‬لفترة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الحجج‭ ‬التي‭ ‬ألجأ‭ ‬إليها‭ ‬كلما‭ ‬أردت‭ ‬الابتعاد‭.‬

مازلت‭ ‬في‭ ‬الشرفة‭ ‬أستمع‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الأغنيات‭ ‬وأستمتع‭ ‬بساعاتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬الاسترخاء‭ ‬حين‭ ‬تذكرت‭ ‬كل‭ ‬الواجبات‭ ‬التي‭ ‬تنتظرني‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬ضمنها‭ ‬كتابة‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭. ‬رغم‭ ‬تكرار‭ ‬هذا‭ ‬الواجب،‭ ‬لكنه‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬قلبي‭ ‬والذي‭ ‬ألبيه‭ ‬بكل‭ ‬استمتاع‭ ‬رغم‭ ‬ضيق‭ ‬الوقت‭ ‬أو‭ ‬انشغالي‭ ‬عنه‭.‬

لا‭ ‬يسعني‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬دانيا،‭ ‬رئيسة‭ ‬التحرير‭ ‬وهي‭ ‬تسألنا‭ ‬بنبرة‭ ‬تعلم‭ ‬الإجابة‭ ‬وابتسامة‭ ‬لطيفة‭ ‬وخجولة‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬أتممنا‭ ‬كتابة‭ ‬مقالات‭ ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬الموعد‭ ‬المحدد‭ ‬أم‭ ‬لا،‭ ‬وتكون‭ ‬إجاباتنا‭ ‬جميعًا‭ ‬بالنفي‭ ‬على‭ ‬استحياء‭ ‬لكننا‭ ‬نعدها‭ ‬بأننا‭ ‬سنقدمها‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬وقت‭. ‬تقوم‭ ‬دانيا‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬وسعها‭ ‬لتخفيف‭ ‬الضغط‭ ‬عنا،‭ ‬تتخلى‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬المدير‭ ‬القاسي‭ ‬المخيف‭ ‬وتلجأ‭ ‬إلى‭ ‬اللطف‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نحب‭ ‬إرضائها‭ ‬ونعمل‭ ‬عليه‭.‬

أتوق‭ ‬إلى‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬المقال‭ ‬حتى‭ ‬أرسله‭ ‬إلى‭ ‬إيمان،‭ ‬نائبة‭ ‬مديرة‭ ‬التحرير‭ ‬والتي‭ ‬اعتدت‭ ‬إلى‭ ‬أخذ‭ ‬رأيها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مقال‭ ‬أكتبه‭ ‬قبل‭ ‬تقديمه،‭ ‬فتمدني‭ ‬هي‭ ‬بالثقة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أقتنع‭ ‬أنا‭ ‬بكتابته‭ ‬وتشجعني‭ ‬على‭ ‬تقديمه،‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬نفس‭ ‬الحوار‭ ‬المتكرر‭: ‬‮«‬حلو؟‮»‬‭ ‬‮«‬قووووي‭ ‬بجد‮»‬‭ ‬يكون‭ ‬ردها‭. ‬أعشق‭ ‬حماسها‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬أقتنع‭ ‬أنا‭ ‬بالمقال،‭ ‬وأقدمه‭ ‬فورًا‭ ‬بعدها‭.‬

ظلت‭ ‬تراودني‭ ‬فكرة‭ ‬مقال‭ ‬الرأي‭ ‬للعدد‭ ‬الخاص‭ ‬بالجريدة‭ ‬لهذا‭ ‬العام‭ ‬وفكرت‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬موضوع‭ ‬يخص‭ ‬الشباب‭ ‬واحترت‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬غطى‭ ‬صحفيو‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬معظم‭ ‬الجوانب‭ ‬الشبابية‭ ‬وتركوني‭ ‬في‭ ‬حيرة‭. ‬كان‭ ‬قراري‭ ‬هو‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬التعليقات‭ ‬التي‭ ‬يتلاقاها‭ ‬الشباب‭ ‬وخاصة‭ ‬البنات‭ ‬بكثرة‭ ‬عن‭ ‬الزواج‭ ‬ووجوب‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬شريك‭ ‬حياة‭ ‬وقررت‭ ‬عنوانه‭ ‬وطريقة‭ ‬عرض‭ ‬الموضوع،‭ ‬لكن‭ ‬غيرت‭ ‬هذه‭ ‬الأجازة‭ ‬كل‭ ‬القرارات‭ ‬وامتنعت‭ ‬عن‭ ‬الفكرة‭.‬

عظيمة‭ ‬هي‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬تأتيك‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬والناس‭. ‬أفكار‭ ‬حرة‭ ‬طليقة‭ ‬غير‭ ‬متأثرة‭ ‬بضغوطات‭ ‬الحياة‭ ‬أو‭ ‬آراء‭ ‬الناس،‭ ‬أفكار‭ ‬وليدة‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬فقط‭ ‬وتلك‭ ‬الحالة‭.‬

قررت‭ ‬الكتابة‭ ‬بحرية،‭ ‬عن‭ ‬أجازتي‭ ‬وأفكاري‭ ‬وخلو‭ ‬ذهني‭ ‬وهو‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬أفتخر‭ ‬بتحقيقه‭ ‬الآن‭.‬

فنحن،‭ ‬وخاصة‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬أعمارنا،‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬خلو‭ ‬الأذهان‭ ‬من‭ ‬فترة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭. ‬تقسو‭ ‬علينا‭ ‬ضغوطات‭ ‬الحياة‭ ‬السريعة‭ ‬التي‭ ‬نحياها‭ ‬فنفكر‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬والدراسة‭ ‬وتحقيق‭ ‬الذات‭ ‬واكتساب‭ ‬صداقات‭ ‬عديدة‭ ‬وحياة‭ ‬صحية‭ ‬وجسد‭ ‬متناسق‭ ‬وأنشطة‭ ‬ترفيهية‭ ‬وعلاقات‭ ‬عائلية‭ ‬سليمة‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لعقل‭ ‬بشري‭ ‬أن‭ ‬يتحمل‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬في‭ ‬خططنا‭ ‬وجداولنا‭ ‬المشغولة‭ ‬دائمًا‭ ‬أولوية‭ ‬الانفصال‭ ‬والبعد‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يؤرقنا‭.‬

أعتذر‭ ‬إلى‭ ‬أصدقائي‭ ‬الذين‭ ‬تخليت‭ ‬عنهم‭ ‬لبضعة‭ ‬أيام‭ ‬لأنفصل‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المزعج،‭ ‬أعتذر‭ ‬إلى‭ ‬أساتذتي‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬واجب‭ ‬دراسي‭ ‬أخرته‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة،‭ ‬أعتذر‭ ‬لدانيا‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬متابعتي‭ ‬الجيدة‭ ‬لعملية‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭..‬فلقد‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬للانعزال‭.‬