لطفي لبيب: حكايات الحرب وما بعدها
العساكر أصل الحكاية
تحرير: مهند أبو سريع
الصورة من فليكر
إما النصر أو الشهادة، تلك كانت القاعدة لكل من انضم للجيش في سنوات النكسة. هكذا أمضى لطفي لبيب، الفنان الكبير، ما يقارب ست سنوات خدمة إجبارية كعسكري بالكتيبة ٢٦ ما بين بداية عام ١٩٧٠ ونهاية عام ١٩٧٥، وذلك بعد تخرجه مباشرة من المعهد العالي للفنون المسرحية.
“دفعت ضريبة الدم ستة أضعاف” هكذا علق لبيب على مدة خدمته في الجيش.
لم تنتهِ الحرب بالنسبة للبيب وجيشه لحظة العبور كبعض الجيوش الأخرى، بل لم يخطُ أرض القاهرة حتى فبراير ١٩٧٤، ولم تنتهِ خدمته حتى نهاية عام ١٩٧٥.
كان لبيب جزءًا من الجيش الثالث، أحد أوائل الجيوش التي عبرت خط بارليف، الخط الدفاعي الإسرائيلي الذي تواجد على طول قناة السويس. وكان الجيش الثالث رابضًا بمنطقة السويس.
“عندما عبرنا، وتقدمنا في الاقتحام حدثت الثغرة وتحاصرت كلا القوات، المصرية والإسرائيلية. دخلت القوات الإسرائيلية من الثغرة والتفوا حول مدينة السويس فتحاصروا، ولكن وجدوا أنفسهم مطوقين بالقوات المصرية من الأمام ومن الخلف أيضًا…فكلانا كان مُحاصر”
أخبر لبيب القافلة أن تلك الثغرة كانت من نصيب الجيش الثالث، وبالتالي كانت الثغرة بدايةً لمعركة امتدت طويلًا بعد العبور ما بين الجيش الإسرائيلي والجيش الثالث. وهكذا انتهت الحرب بالنسبة له بعد توقيع اتفاقيات الفصل بين القوات بالكيلو ١٠١.
سبب تلك الثغرة الرئيسي كان أن نقطة التقاء الجيش الثالث بباقِ الجيوش كانت ضعيفة. فاستغل جيش العدو أن مؤخرة الجيش الثالث كانت أقل حماية من مقدمته ووسطه واخترقوا الجيوش من خلال تلك الثغرة.
“إلى الآن لن أنسى الأزمات التي مرت علينا، أزمة الطعام..خطوط الإمداد..وجبة الطعام التي كان من المفترض أن نتناولها في يوم، كنا نتناولها في ثلاثة أيام..أصبح هناك مصدر واحد للماء داخل مدينة السويس..كان لا بد من عبور القناة [كي نأخذ الماء من هذا المصدر]”.
تكيفًا مع الظروف المواتية، كان لكل فرد من القوات فقط “زمزمية مياه [واحدة] باليوم”. ساءت الظروف حتى لجأت القوات لتقطير المياه. فكانوا يقومون بتفكيك خزانات السيارات القديمة ويضعون تحتها “الكاوتشات المضروبة”، كما وصفها لبيب، أو إطارات السيارات الفاسدة ويقومون بالتقطير.
قال لبيب: “ربنا بعت مطر وكان جميل”، فيما خفف من وطأة مشكلة المياه لفترة.
في ليلة عيد ميلاد المجيد في ٦ يناير ١٩٧٤، وفي ذروة الحصار، تبرع بعض العساكر أصدقاء لبيب كلٌ بكوب ماء ليجمعوا له قارورة يستحم بها استقبالًا للعيد.
كانت كل تلك اللحظات التي ذكرها لبيب في كفة ولحظة أن علم بأن إكرام لبيب—شقيقه ونقيب احتياطي بسلاح التعيينات بالجيش المصري— قد وقع أسيرًا في كفة أخرى.
قال لبيب “طبعًا أنا لم أعرف، عرفت وهو يتحدث بالإذاعة قائلًا: أنا قلقان على أخويا لطفى وأحاول الاطمئنان عليه وأنا أسير..فعلمت أن أخي أسير، لكن ماذا سأفعل؟ فقد كنت عسكريًا”.
عاد إكرام من الأسر بعد شهرين ونصف، وزار لبيب في كتيبته عقب عقد الاتفاقيات الفصل.
“بعد توقيع الاتفاقيات، عُدنا بقطار مزين بالورود من منطقة تسمى عجرود حتى محطة كوبري الليمون والتي كانت في رمسيس” أضاف لبيب.
كانت الطلقات النارية على طول الطريق تحيي الجيوش العائدة، واحتشد الشعب في محطة عين شمس. اندفعت الحشود ورمت السيدات “الشيك” القوات المصرية بالشيكولاتة احتفالًا بعودتهم.
ذاكرة لبيب تشبه لأعماله الفنية، حية بتفاصيل دقيقة مطعمة بقصص إنسانية. لازال يذكر المرأة الجميلة حافية القدمين مهملة المظهر التي كانت تجوب أنحاء المحطة حينذاك باحثة عن شيء ما.
“ماشية تقول: محدش شاف محمد السيد اسماعيل؟ كتيبة ١١٩. محدش شاف محمد السيد اسماعيل؟ تلك هي الحرب” أضاف لبيب.
عندما سألت القافلة لبيب عن إن كان هناك حكايات إنسانية أخرى لازالت عالقة بذهنه إلى الآن منذ أيام الحرب، قال أن من ضمن الذكريات التي لا يمكن أن ينساها لبيب: صديقه السيد عبد الرزاق—شهيد الحرب.
“أُصيب بدفعة رشاش في صدره واستشهد. قبل أن يموت قال: “حد ياخد مكاني يا جماعة. لم يخطر على باله أن يتأوه من الألم” قال لبيب.
ذكر أيضًا أن لحظة العبور ذاتها كانت من أصعب اللحظات في الحرب. فكان في سيناء نقطة قوية وهي نقطة سهلة الاختراق وأخرى “مسحورة” كما أسماها هو وجيشه. كانت تلك النقطة المسحورة صعبة الاختراق، ولكن الجيش الثالث تمكن من اختراقها وأسر كل من يسكنها.
كونه عسكريًا في جيش أكتوبر، كانت تجربة لبيب فريدة. وخلال سنوات قليلة بعد الحرب كتب لبيب عن تجربته سيناريو فيلمًا أسماه بأسم كتيبته الكتيبة ٢٦. حاول لبيب تنفيذ الفيلم ست مرات ولكنه لم يوفق، فقد وصل للشئون المعنوية ولم يتخطاها، ولكن السيناريو نُشر في كتاب طبع ثلاث مرات بداية من عام ٢٠١٣.
قال لبيب، “من رأيي، لم يُنفذ [أي] فيلم يعبر عن حرب أكتوبر، رغم تشكيل لجنة من القوات المسلحة لكتابة عمل فني عن حرب أكتوبر. ضمت اللجنة أسامة أنور عكاشة وإلى آخره.”
يرى لبيب أن فيلمه لن يرى النور، لأنه يحكي قصة الجيش الثالث وهو الضلع الأكثر مقاومة في الحرب. في وجهة نظره، يرى بعض الناس أن ذلك التوازن الذي حققه جيشه لم يكن انتصارًا ساحقًا.
أضاف لبيب، “هذا فيلم جماعي عن الحرب وليس مجدًا شخصيًا. لم يُنفذ أي فيلم عن العساكر، فكل الأفلام عن القيادات..[العساكر] أصل الحكاية”.