للمرةِ الأولى
كتبت: إيمان خروشة
رئيسة التحرير السابقة
منذ ما يقرب من العام ونصف، كنت أحمل لقب طالبة بقسم الصحافة، ومثل باقي الطلاب، كنت أرى العالم بعيونٍ مُثقلة في حين، وشغوفة في حين آخر. أشاهدني حاملة حقيبة ظهري، اللابتوب، كوب ساخن من القهوة، وبعض الـ “سناكس” التي تتكتل كلها في يد واحدة؛ كل هذا وأنا أسارع خطواتي لألحق بالمحاضرة التي غالبًا ما أكون قد تأخرت عليها، بينما تتساقط مني عدة أشياء.
أنتهي من المحاضرة ثم أسرع لألحق بموعدي مع محرري القافلة لنتحدث عن خطة الأسبوع القادم، أو لنحدد معًا عدد مقالات الأسبوع، أو أو أو… ضمت جدران القافلة الكثير من الأحاديث والمواضيع والتحديات والمشاحنات.. وشهدت جدرانها مشاعر مختلطة.
ومنذ عام ونصف، كانت غرفة الأخبار الواسعة تلك، بمثابة منزلي الثاني، المكان الذي أذهب إليه سواء كان هناك اجتماع أو لا… سواء كان هناك عدد جديد أم لا.. وتمامًا كالمنزل، كنت أملّه في الكثير من الأحيان، وأتمنى انتهاء الفصل الدراسي حتى استريح قبل بدء الفصل الدراسي الجديد… أذكر كم كنت أتمنى أن أتخلص من مواعيد تسليم العدد للطباعة ومن التحرير ومن الكتابة.. تمنيتُ أن ينتهي كل ذلك حتى أتوقف عن الجري… حتى ولو لبضعة ثوانً.
إلى أن جاء اليوم المحتوم، كان يوم أربعاء حيثُ تلقينا خبر حلول العاصفة يوم الخميس، لذا فالجامعة سوف تغلق حفاطًا على سلامة مجتمع الجامعة. بالطبع، تلقينا الخبر جميعًا بالفرحة والحماس لل Long weekend، ولكننا لم نعلم توابع ذلك. لم نكن نعلم ما سوف تأتي به رياح تلك العاصفة… التي قلبت حياتنا بلا استثناء، رأسًا على عقب.
منذ ذلك اليوم، لم تسنح فرصة لألقي تحية أخيرة على أساتذتي وأصدقائي قبل التخرج. لم أستطع إلقاء تحية على القافلة مرة أخيرة كطالبة. بالطبع، فتحت الجامعة بواباتها بعد انتهاء ذروة جائحة فيروس كورونا، ودخلت الجامعة مرات ومرات منذ ذلك الحين، ولكن في كل مرة أعبر بها تلك البوابات، أشعر بغصة في قلبي… ومثلي مثل دفعة ٢٠٢٠ و ٢٠٢١، شعرنا كلنا بالأسى لعدم معرفتنا أن ذلك الأربعاء سيمثل اللقاء الآخير.
وفي كل مرة، يأتي على ذهني شعر مصطفى إبراهيم لقوله: “لو بس كنت ساعتها عارف إن دي المرة الاخيرة… مية مية كانت هتفرق في الوداع.”
لو علمت أن آخر يوم لي كرئيسة تحرير في القافلة لن أقضيه في رواق الحرم الجامعي، لكنتُ قضيت كل لحظة ممكنة في تلك الغرفة. كتبت مريم البرنس، مديرة تحرير قسم اللغة العربية سابقًا أن “أجمل الأشياء، لو يعلم الناس، هي تلك التي تتشكّل على مهل.” وبالفعل، حبي للقافلة وانتمائي لهذا المكان، تشكل على مهل، فهي تراث أدركنا جميعًا قيمته، ورأيناه كما لم نراه من قبل.
والآن، بعد عام ونصف من تخرجي، عقدت الجامعة مراسم احتفال لدفعتي ٢٠٢٠ و٢٠٢١ يوم الثلاثاء الموافق ٢١ سبتمبر. ترددت قبل الذهاب، وبعد الكثير من المفاوضات والمناقشات بيني وبين أصدقائي، لم أكن سأحضر معللة أن مراسم الاحتفال لن يكن لها طعم الآن… ولكن حينما وقفت على ذلك المسرح أول أمس، وحينما نودي على اسمي، وحينما سمعت موسيقى أوبرا عايدة، وحينما ارتديت ذلك الثوب الأسود… عَلِمتُ أنني لو لم أحضر ذلك الحفل لندمت ندمًا قاسيًا.
بالرغم من انعقاد الحفل بعد ما يقرب من العامين من تخرجنا، ولكن أنا على يقين أن هذا الاحتفال من الأشياء التي يعد تأخرها أفضل من ألا تأتي أبدًا. بعد هذا الحفل، ذهبت أمس إلى الحرم الجامعي، ولم أشعر بغصة في قلبي. شعرتُ بطعم البدايات الجديدة، تلك التي نطوي بها صفحات الماضي يقلب راض ومشاعر مختلطة، تلك التي تضعنا على دربٍ جديد.