لهذا أكتب
كتب: عمرو عبد العظيم
محرر
في إحدي ليالي حزيران الحارة وأنا ابن الرابعة أو الخامسة، لا بد أني قد جلست خائفًا متدثرًا في فراشي. والسبب في ذلك لم يكن العفريت أو “أمنا الغولة”، بل كانت صورة ذاك الشيخ المقعد الذي اختار أخي وهو يكبرني خمسة أعوام ونصف أن يعلقها في غرفتنا. ملصق ضخم به صورة لشيخٍ مقعدٍ يرتدي جلبابًا أبيض واشتعلت ذقنه شيبًا. وكان ذاك الشيخ الذي أرق ليالي وأنا صبي هو الشيخ أحمد ياسين، رحمة الله عليه. الذي اغتالته قوات الاحتلال عام ٢٠٠٤.
وإحقاقًا للحق، فإني حين أمعن النظر، أجد أطلال فلسطين تلوح في أفق طفولتي رغمًا عني. فلم يكتفي أخي بتعليق صورة الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حماس وحسب. بل وكان يجاورها ملصق آخر للمسجد الأقصى. وفي الطرقة المؤدية إلى غرفتنا كان هناك صورة في إطار نحاسي بهت لونه مع الزمن، كانت صورة ضخمة لقبة الصخرة، اشتراها أبي – رحمه الله – قبيل زفافه، وأصر ان يعلقها في البيت.
وأنا أزعم أن هذه لم تكن حالةً خاصةً لبيتنا دون سواه! ربما يكون من الجنون الزعم بأن كل طفلٍ مصريٍ كان لديه صورة لأحمد ياسين أو عز الدين القسام في غرفته، ولكن الوعي بالقضية الفلسطينية كان ملموسًا في الهواء الذي نتنفسه. لم يكن هناك من مفر من أن ترتبط بالقضية الفلسطينية في سننا ذاك؛ فتلك المناظر كانت في كل مكان. أن تمشي في الشارع فتجد رجلًا يحتمي من البرد بكوفية فلسطينية بيضاء وسوداء، أو تركب سيارة أجرة فتسمع صوت الفنان شعبان عبدالرحيم يتشدق بـ “أنا بكره إسرائيل!”، أن تجلس لمشاهدة التلفاز مع والديك مساءًا فترى فيلم السفارة في العمارة لعادل إمام. أذهب لصلاة العيد مع أبي فأجد شابًا يكبرني بضع أعوام يهديني لعبة بلاستيكية وقطعًا من الحلوى وملصقًا صغيرًا يقول “عيدنا يوم تحرير الأقصى”.
وأنا ابن الثامنة في العدوان على غزة، حين كنت أحضر لامتحاناتي، كانت أمي تطاردني حتى لا أشاهد التلفاز وأذاكر الدرس، ولكن كان هناك خيط خفي يجذب كلينا إلى تلك الشاشة لنشاهد آخر التطورات، لنشاهد الفسفور ينهال من طائرات الاحتلال تارة، أو مقطع استشهاد محمد الدرة معادًا مئات المرات تارة أخرى.
فقل لي يا عزيزي؟ هل تستطيع الهرب من الهواء؟ وكذلك لم يكن هناك بدٌ من متابعة القضية الفلسطينية يومًا وراء يوم لجيلنا هذا. لكن تلك الأيام قد ولت! فأنا ما عدت ذاك الصبي إبن الحادية عشر بل أنا هذا الشاب إبن الحادية والعشرين. لم نعد نحن “الجيل الصاعد” أو “الجيل الواعد” أو “شباب المستقبل”، بل نحن شباب الحاضر ولا فخر.
واليوم؟ لست أظن أبناء الثامنة يشاهدون السفارة في العمارة، وبالتأكيد لا يشاهدون التلفاز صباح السادس من أكتوبر وأفلام العبور، وأرجو ويخيب رجائي ألا يكونوا على علم بمن هو محمد رمضان وهو مطبعٌ صريح. لقد تغير العصر، وتغيرت وسائل التواصل. وما كانت يومًا حالة عارمة من الوعي بالقضية الفلسطينية لم تعد أكثر من ذكريات لبعض الشباب الذين شاخوا قبل أوانهم.
ولهذا، أكتب. فبدلًا من مصمصة الشفاه، والتلذذ بالوجع في حالة من النشوة الكربلائية على ما مضى، وأدبيات الهزيمة تلك، أرجو أن تصل كلماتي هذه لشاب واحدٍ على الأقل. شابٌ لا يعرف من هو محمد الدرة، ولا من هو الشيخ أحمد ياسين، شاب لم يسمع الراحل شعبان عبدالرحيم وهو يقول “أنا بكره إسرائيل”.
وعادةً صديقي العزيز، حين أكتب، كنت أحب أن أختم مقالي ببيت من الشعر، فاقتبس أبا العلاء تارة وأبا فراس تارة أخرى. ولكن في مثل هذا الموقف، أظن عين البلاغة تتلخص في قول شعبان:
“إيه ذنب الأطفال اللي يوماتي تموت، ناس ماسكين سلاح! وناس ماسكين نبوت!”