“يرَونَهُ بعيدًا ونراهُ قريبًا”
صورة التقطها عمر أبوزيد
أن تكون فلَسطينيًّا يعني بالضرورة أن تعيش بأملٍ كبير ورجاءٍ دائمٍ يدعوك لأن تفكّر بيومٍ كبير، يومٍ كانت قد حدّثتك عنه جدّتك يومًا أو سمعتَ من حولك يذكُرونَه بشكلٍ شبه يوميّ. هذا اليوم هو يوم تحرير الأرض والعودةِ إلى الدّيار، يومٌ ينتظرُه الفلسطينيّون منذ ٧٥ عامًا، فهل يطول الانتظار؟
في ظلّ حملات العنف والقتل البربريّة التي تمارسها قوّات الاحتلال الإسرائيليّ، أصبح من الواضح انّ الغضب الفلسطينيّ لن يهدأ ولن يتراجع بل سيستمرّ ليخلق حالة من الضّغوط المتزايدة على دولة الاحتلال والمجتمع الغربيّ الداعم لها.
في الفترة ما بين ٨-١١ آذار (مارس) ٢٠٢٣ قام المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية بإجراء استطلاع للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. كنتيجة لاستطلاع الرأي رقم ٨٧، اتّضحت حدّة مواقف الشعبُ الفلسطينيّ وازدياد التأييد للعمل المسلّح وتراجع الدعم العام لحل الدولتين بالإضافة إلى انحسار الثقةِ في السلطة الفلسطينيّة.
في هذه الدراسة كانت نسبة الرضا عن أداء الرئيس عبّاس تبلغ ١٩% مقابل نسبة عدم رضا كانت قد بلغت ٧٧%. وقبل ثلاثة أشهر فقط من هذه الدراسة كانت نسبة التأييد قريبة من ٢٣%، لذا فإن نسبة التأييد للسلطة الفلسطينيّة بشكلٍ عام في تراجعٍ مستمر منذ بداية هذا العام.
لقد أدت الانتفاضةُ غير المسبوقة التي يشهدها العالم واستمرارها بأشكال متعددة إلى انقسامٍ ملحوظٍ بين قيادة السّلطة الفلسطينية والمجتمع الفلسطينيّ وزادت من دعم الشعوب للمقاومةِ المسلّحة كسبيلٍ للتحرير. كما زاد رفضُ الشعب الفلسطينيّ لأي اتفاقيّة سلامٍ أو تقسيمٍ للأرض.
العامِل الأهم في المرحلة الحاليّة هو الوِحدة التي يشهدها العالم نحو هدفٍ واضح وهو إيصال صوت الفلسطينيّين إلى أكبر عددٍ من المؤيّدين. هذه التعبئة الشعبيّة المتجددة، سواء على الأرض أو عبرَ الإنترنت، تحدّت بشكلٍ واضح سياسات “فرّق تسُد” التي تنتهجُها دولةُ الاحتلال وهزّت ثقة الكيان العمياء بقوّته التي تلاشت أمام إصرار الفلسطينيّين على حقّهم.
لم يتمكّن الاحتلال حتى هذه اللحظة من تجاوز الصدمة التي تعرّض لها شهر أكتوبر الماضي خاصّة مع ارتفاع خسائره العسكريّة ومقتل عددٍ لا بأس به من جنوده. وبعد مرور شهر من مواجهة الاحتلال للمقاومة الفلسطينيّة، بدأت الصحف الإسرائيليّة كصحيفة جوروزالم بوست (Jerusalem Post) بتحليل تبِعات هذه الحرب والتحدّيات التي يواجهها الكيان الصهيونيّ.
في بداية هذه الحرب سارع المجتمع الدوليّ إلى إدانة الهجوم الذي شنّته حركة حماس وتعهّدت الدّول الغربيّة الكبرى وعلى رأسها الولايات المتّحدة بتقديم الدعم الكامل لدولة الاحتلال. أمّا اليوم ومع استمرار القصف الوحشيّ على غزة والمجازر المُرتكَبة بحق المدنيّين الفلسطينيّين، نرى ضغوطًا مستمرّة من قبل حلفاء الاحتلال أجبرَته بشكلٍ أو بآخر على قبول هدنةٍ إنسانيّة قريبة.
أمّا التحوّل الأكبر فكان من نصيب الإدارة الأمريكيّة حين دعا ٢٤ من أعضاء الكونجرس الأمريكيّ الرئيس جو بايدن إلى ضرورة دعم وقف إطلاق نارٍ ثنائيّ في غزة من أجل حماية مليون طفل يعيشون في القطاع. لا شكّ أنّ مثل هذا التحوّل في الموقف الأمريكيّ يأتي بشكلٍ رئيسيّ كنتيجةٍ لاقتراب الانتخابات الرئاسيّة. فحسب استطلاع ل “إن بي سي نيوز” اتّضح أنّ شعبية الرئيس بايدن تراجعت إلى ٤٠% على خلفية رفض الناخبين لسياسته.
يشهد العالم الآن موجة دعمٍ كبيرة للشعب الفلسطينيّ ليس فقط على المستوى السياسيّ بل و لوحظ خلال الفترة الأخيرة الجهود المبذولة لزيادة وعي الشعوب بالقضيّة الفلسطينيّة والاحتلال الذي دام لأكثر من ٧٥ عامًا. هذا الدّعم الهائل يسبّب الآن صدمة نفسيّة داخل دولة الاحتلال خاصّة مع وجود العديد من الرهائن الإسرائيليّين داخل غزّة.
لا يبدو حتى هذه اللحظة أنّه ثمة نهاية واضحة لهذه الحرب التي تورّط بها الاحتلال. رغم أن فكرة “تدمير حماس” أو تدمير المقاومة الفلسطينيّة بالكامل قد تبدو جذّابة ومهمّة بالنسبة لهم، إلّا أنّ تطبيقها بشكلٍ فعليّ سيكون له عواقبٌ غير متوقّعة،خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار أن حماس تحظى بشعبيّة ملحوظة في الحياة الاجتماعية والمدنية في غزة، بالإضافة إلى الدّعم الواسع في الضفة الغربيّة.
في نفس الاستطلاع الذي قام به المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية عام ٢٠٢٣، تبيّن أنّ ٢٦% من المشاركين قالوا أنّ حماس هي الأجدر بتمثيل وقيادة الشعب الفلسطينيّ بينما تقول نسبة ٢٤% أن حركة فتح بقيادة الرئيس عبّاس هي الأجدر بذلك. ومن المهم الأخذ بعين الاعتبار أنّ ٤٤% من المشاركين قالوا أنّ الجهتين قد يكونوا غير جديرتَين بالثقة.
على الرغم من ثبات الشعب الفلسطينيّ إلّا أنّ طريقَه لتحرير بلاده سيكون بالفعل طويلًا ومليئًا بالتضحيات الكبيرة، ولكن مقاومتهم ضروريّة وبدونها لا يمكن أن يتحقّق تحرير الأرض. سيبقى هذا الشعب أمام خيار المقاومة المستمرّة على جميع الأراضي الفلسطينيّة. ويجب على أبناء الشعب الفلسطيني في الخارج وهم أكثريّة الفلسطينيين أن يساهموا في مسيرة التحرير وجهود إنهاء النكبة المستمرة.
استمرار الصمود في الأرض، ومقاتلة العدو أصبحت سبيلًا وحيدًا حتّى مع صعوبة الأوضاع بسبب السيطرة الأمنيّة المعززة، ولكن مناوشة العدو تربكه وتستنزفه على مرّ السنوات وتثبت له أنّ هذا الشعب سيدافع عن أرضه كاملةً من البحر إلى النّهر. حتّى لو استمر هذا العدوّ بوحشيّته ومجازره فهذا لن يزيدَ الفلسطينيّين إلّا حبًّا وتمسّكًا بأرضهم بل وسيزيد إيمانهم بحتميّة عودتهم وضرورة مقاومتهم.
ستبقى هويّتنا صامدة وعقبة في وجه هذا الكيان كما قال الشاعر السعوديّ مهذل الصقُور ” أتظن أنك عندمـــا أحـــرقتنــي ورقصت كالشيطان فوق رفاتي … أتظـنّ أنك قـد طــمست هويتي ومحــَــوت تاريخي ومعتقداتي … عبثًا تحاول …. لا فناء لثائر” .