موسيقى المقاومة الفلسطينية وطغيها على إسكات الأصوات المشققة
تحرير: عائشة الجعيدي
صورة التقطها جومانا لبيب
منذ تأسيس فلسطين، عُرِفت بأنها موطن وملتقى للعديد من المجموعات الثقافية والدينية وانعكس ذلك من خلال الفن الموسيقى. قبل عام ١٩٤٨، كانت للموسيقى الفلسطينية أشكال مختلفة مثل أغاني العمل التي غناها الفلاحون والعاملون، وأغاني السفر التي غناها أشخاص يُعرفون بالزجالين، وأغاني ورقصات حفلات الزفاف المعروفة بإسم موسيقى الدبكة.
عندما وقع الاحتلال عام ١٩٤٨، ظهر شكل جديد من الموسيقى وهو ما يعرف بموسيقى المقاومة.
تعد موسيقى المقاومة شكل من أشكال الموسيقى التي تساعد الناس على الاتحاد والاجتماع للتعبير عن مطالب معينة ومقاومة أيديولوجية أو قرار أو حدث معين، قد تكون في شكل أغاني أو هتافات تتكرر في المظاهرات.
في حوار مع فريق القافلة، قالت فيروز قدال، أستاذة مساعدة في برنامج الموسيقى في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أن موسيقى المقاومة تعد عنصرًا مهمًا في دراسات علم موسيقى الشعوب، خاصةً موسيقى فلسطين؛ حيث تبحث في الظروف المجتمعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية للسماح بإنتاج هذا النوع من الموسيقى.
حسب قدال، علم موسيقى الشعوب هو دراسة المجتمع والثقافة والموسيقى؛ إذ يبحث في التقاطع بين القضايا أو الاهتمامات المجتمعية والممارسات الثقافية فيما يتعلق بالموسيقى والصوت، حيث يمكن أن تستخدم هذه الدراسات زاوية الموسيقى لفهم مواضيع مثل الروحانية، والدين والهجرة والتنقل، والجنس، والهوية وبناء الأمة، والاحتجاجات والمقاومة، والتكنولوجيا والعمل.
قالت قدال، “من دراسات علم موسيقى الشعوب الهامة كتاب ديفيد ماكدونالد “صوتي هو سلاحي” الذي أصدر عام ٢٠٠٦، وكتاب لويس بريهوني الجديد “’الموسيقى الفلسطينية في المنفى: أصوات المقاومة” الذي أصدر عام ٢٠٢٣ وأنتجته مطبعة الجامعة الأمريكية؛ إذ إن الكتابين يبحثان في كيفية تطور الاحتجاج الفلسطيني والموسيقى الشعبية؛ ليصبحا جزءًا من المقاومة والبقاء في فلسطين، وكيفية تذكر المجتمع والشعب الفلسطيني والأجنبي بفلسطين والتفكير في مستقبل محتمل”.
موسيقى المقاومة تستهدف كل الأعمار وكل الجنسيات، ولكن من أهم فئات هذا الجمهور هم الفلسطينيون أنفسهم خصوصًا الأطفال والجيل الجديد؛ لكي يتعلموا أصل فلسطين وتاريخها وحقيقة ما حدث، وأيضًا جمال مناظرها وثقافتها قبل الاحتلال الصهيوني.
من الفنانين المهمين الذين تركوا أثرًا كبيرًا على الفلسطينيين والعالم هم محمد عساف، وريم بنا، وأمل مرقص، وكاميليا جبران، وشب جديد، وآخرين.
قالت قدال أنها دائمًا تشارك أعمال الفنانة ريم بنّا مع الطلاب وتناقشه؛ لأن فهم بنّا للمقاومة وموسيقى المقاومة ستظل دائمًا فريدة من نوعها.
أشارت إلى أن أغنية ’يا ليل ما أطولك‘ (يا لها من ليلة طويلة) علقت في ذهنها عندما حدث القصف الليلي بمستشفى المعمداني في غزة يوم ١٧ أكتوبر ٢٠٢٣. تتحدث هذه الأغنية عن صعوبة البقاء على قيد الحياة ليلة طويلة، في محاولة لمواصلة التنفس والنجاة من صعوبات الابتعاد عن المنزل، بينما تعيش عائلتها في غزة في ظل نظام الفصل العنصري والاحتلال.
أوضحت قدال “على الرغم من أن الأغنية كانت من إنتاج عام ٢٠١٠، إلا أنها لا تزال تتمتع بصدى قوي بعد ١٣ عامًا. غنت ريم بنّا بصوت متردد قليلًا، مع عدم وجود آلات مصاحبة ولا إيقاعات، كل هذا مكّنني من مساعدتي في تخيل مستوى الخوف والوحدة والذعر الذي يمكن أن يشعر به فلسطيني في غزة وخارجها”.
يتمثل فهم بنّا عن مقاومة الاحتلال في التركيز على إنتاج تهويدات للأطفال؛ حيث أنتجت ألبومًا بعنوان “أغاني من فلسطين” مخصصًا لجميع الأطفال، معتقدة أن المقاومة تأتي من خلال تثقيف الأجيال الشابة من فلسطين بتاريخ الاحتلال ونزع ملكية الأراضي والمقاومة.
أعربت قدال أن “التاريخ الشفوي والأغاني والهتافات جزء من التراث الثقافي غير الملموس”.
وأنتجت أيضًا قناة طيور الجنة في ٢٠١٠ أغنية بإسم “كنت قاعدة” غنتها المنشدة ديما بشار، وتحكي فيها مثالًا مبسطًا عن قصة الاحتلال، وكيفية التمسك بالأراضي الفلسطينية مهما كان بطريقة يفهمها ويغنيها الأطفال من جميع أنحاء العالم.
تكررت هذه الجملة “مهما طال الزمن ودار، وتخلى الأهل و الجار، عن أرضي أرض الأحرار، ما رح اتخلى” عدة مرات في الأغنية للتأكيد على الرسالة.
التمسك بالهوية من خلال الموسيقى له تفسير نفسي، ولذلك شاركت داليا فريد، مغنية وكاتبة أغاني وعالمة النفس الموسيقي، مع القافلة، رؤيتها و تفسيرها حول هذه النظرية.
علم النفس الموسيقي هو مجال متعدد التخصصات يستكشف الجوانب النفسية والعصبية والاجتماعية للموسيقى، وتأثيرها على الأفراد والمجتمع واستجابتهم. يوضح علم الأعصاب أنه بمجرد الاستماع إلى الموسيقى تُفعل تقريبًا كل المناطق المختلفة في مخ الإنسان.
قالت فريد إنه يوجد جزآن مهمان في المخ وهما: اللوزة الدماغية والحصين “Amygdala and Hippocampus”. اللوزة تتفاعل وتلعب دورًا هامًا في التعامل مع المشاعر العاطفية. الموسيقى لها مسار مباشر إلى اللوزة، وتتجاوز التعامل مع اللغة، ويمكن أن تثير ردود فعل عاطفية قوية.
أما الحصين فهو المسؤول عن الذكريات، وتتمتع الموسيقى بقدرة فريدة على استرجاع ذكريات الأحداث الشخصية مما ينشط الحصين. يمكن للأغاني أو الألحان المألوفة أن تثير الذكريات المرتبطة بأحداث أو أشخاص أو أماكن معينة.
قالت فريد “الموسيقى تتخطى الجانب اللغوي التقليدي، و تعد لغة عالمية يقدر الإنسان من خلالها إرسال معانٍ كثيرة جدًا؛ لأنها ليست تخترق المخ فقط بل تخترق قلب الإنسان سواء كان فلسطينيًا، عربيًا، أو أجنبيًا.
أشارت فريد “وجود حفلات موسيقية فلسطينية خارج البلد له دور حيوي؛ لأن الفلسطينيين الذين يعيشون في المهجر خارج بلادهم يستطيعون أن يكون بينهم وبين وطنهم صلة قوية، ويمكنهم أن يرسلوا صوت قضيتهم للعالم؛ لكي يرى القضية الفلسطينية على حقيقتها”.
في لقاء مع القافلة، قال محمود حمودة، طالب فلسطيني في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أن هذه الحرب من أشد الحروب التي نراها و نشهدها بسبب تهجير والإبادة الجماعية لأهله في غزة و في الضفة.
شارك حمودة أن كل ما حدث للفلسطينيين عبر التاريخ من تهجير و ظلم و إبادة جماعية، دفع الناس لإنتاج أغاني فلسطينية تُحفِذ الناس على المقاومة والصبر من أجل حقوقهم.
قال حمودة “أتذكر وأنا صغير كانت أغنية “الحق سلاحي” للمغنية جوليا بطرس منتشرة على كل القنوات الإخبارية في الفاصل على قنوات الميادين و الجزيرة، علّقت معي لأن كلماتها لا تزال تنطبق حالياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وتعتبر هذه الأغنية مفضلة بالنسبة لي”.
موسيقى المقاومة الفلسطينية تلعب دورًا رئيسيًا في توثيق أحداث معينة، والحفاظ على الممارسات والتقاليد المجتمعية التي تنتقل من جيل إلى آخر؛ لأنها تصنع أجيالًا جديدة تفهم معاني الاحتلال والمقاومة.
قالت فريد “الدبكة والتراث الموسيقي لديهما جذور بارزة في الثقافة، والأكل، والشِعر، والأدب والرقص الفلسطيني والموسيقى بالطبع. هذه هي الهوية الفلسطينية التي لا يمكن أن تلغى أو تنتهي باعتبارها جزء كبير من المقاومة”.