غزة: تاريخ من المقاومة والتضحيات
تحرير: محمد العشري
على مرّ العُصور لعِبت مدينةُ غزّة دورًا جوهريًّا في تاريخِ فلَسطين القديم والحديث، فلَم تغِب هذه المدينةَ يومًا عن بالِ الفلَسطينيّين، بل كانت رمزًا دائمًا للمقاومَةِ المستمرّة التي لا تعرفُ معنى الاستسلام.
مؤخّراً، وبعد العمليّةِ العسكريّة التي نفّذتها حركةُ حماس على الاحتلال الإسرائيليّ، عادَت مدينة غزّة إلى مركزِ الصراعِ الفلسطينيّ ضد الاحتلال وذكّرتنا بتاريخٍ طويلٍ من المحاولات المستمرّة للسيطرةِ على المدينة. ويبقى السؤال الأساسيّ، كيفَ شكّلت غزّة عقبةً دائمةً في وجه الاحتلال؟
قَبلَ بدءِ الاحتلال الإسرائيليّ كانت مدينةُ غزّة مَطمَعًا للقوّات الأجنبيّة، فخضعت هي وغيرُها من المدن الفلسطينيّة للاستعمار البريطانيّ عام ١٩٢٠. يقول أباهر السّقا، أستاذ العلوم الاجتماعيّة، في كتابه “غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني، ١٩١٧ – ١٩٤٨”، إنّ الاستعمار فرض الكثيرَ من الممارسات العنصريّة على غزّة بحجّة بثِّ روح الحضارةِ فيها.
يضيفُ السقا أن مدينة غزّة بقِيت صامدة رغم محاولات تهميشِها تاريخيًّا. كان ذلك بفضل جهودِ أهلِها وحرصِهم على تنميَةِ مدينتِهِم؛ ليُثبِتوا أنّه وبالرغم من المأساةِ التي عاشتها هذه المدينة ستبقى جزءًا لا يتجزّء من التاريخ الفلسطينيّ تمامًا كما هي الآن.
بعد صدور قرار الأمم المتحدة عام ١٩٤٧ بتقسيمِ فلسطين إلى دولتين عربيّة ويهوديّة، أُضيفَت غزّة رسميًّا إلى الدّولةِ الفلسطينيّة. وفي عامِ النّكبة ١٩٤٨ استطاعت القوّات المصريّة دخول المدينة ووقّعت اتفاقيّة مع الاحتلال عام ١٩٤٩ أبقَت غزّة تحت الحُكم المصريّ حتى النكسة عام ١٩٦٧.
قابَلَت القافلة، عبر الهاتف، النّاشط الأمريكيّ مايكو بيليد والذي تحوّل من داعِمٍ للصّهيونيّة إلى مُدافعٍ عن حقوق الفلسطينيّين وداعمٍ لدولةٍ فلسطينيّة واحدة. قال بيليد خلال اللقاء إنّه من المهم أن نعرف لماذا كانت غزّة هدفًا دائمًا للاحتلال؛ فهي مدينة عريقة ذات حضارةٍ ممتدة.
قال بيليد، ” في بداية الخمسينيّات وعندما كانت غزة تحت الحكم المصريّ كان مسلّحو الجيش الإسرائيليّ يشنّون هجمات مستمرّة على غزّة لقتلِ المدنيّين الفلسطينيّين، وكانت حجّتهم الدّائمة هي الدّفاع عن النّفس، والقضاءِ على المتمرّدين، وفي الوقتِ الحاليّ القضاء على الإرهاب. دائمًا ما تجِد إسرائيل أسبابًا جديدة لتبرير محاولات قضائِهِم على غزّة”.
يَرى بيليد أنّ غزّة تُعتَبَر تَحدٍّ كبير، ليس فقط بسبب المقاومة؛ بل أيضًا لأنّ عددَ سكّان هذه المدينَةِ الصغيرة يبلُغ مليونيّ فردًا نِصفَهُم أطفال لعائِلاتٍ لاجِئةٍ إلى غزّة. لن يسمَح الاحتلال لهؤلاء الأفراد أن يُفكّروا بالعودة إلى ديارهم أو أن يسعَوا إلى التحرير، لذلك يُفَضّل الاحتلال قتلَهم وإلقاء اللوم على حماس .
على الرّغم من الاتفاقيّات العديدة بين السلطةِ الفلسطينيّة والاحتلال إلّا أنّها لم تمنع المقاومة في قطاعِ غزّة من تنفيذِ هجماتٍ عسكريّة تُذَكّر الاحتلال بالحضورِ الفلسطينيّ.
أضاف بيليد أنّ “المشكلة الأساسيّة بالنسبة للاحتلال هي استمرار الفلسطينيّين بالتواجد والعَيش. فقد وضع الاحتلال مليونيّ شخصًا في سجنٍ مفتوح لسنواتٍ عديدة، ولم يحصلوا على أبسط الحقوق كالماء والتنقّل والسّفر؛ فما هي خيارات الاحتلال في التعاملِ مع شعبٍ عاش تحتَ هذهِ الظروف؟”
وفقًا لبيليد، غزّة أثبتَت أن الاستخبارات الإسرائيليّة وجهودِها الأمنيّة والدفاعيّة أصبحت بلا فائدة. فنستطيع ملاحظة تخبُّط الاحتلال في تعامله مع المقاومة وخوفِه الذي دفعه إلى قتل المدنيّين بشكلٍ جنونيّ. عند مهاجمته للمدنيّين، أثبت جيشُ الاحتلال خسارتَهُ بالفعل.
قابلت القافلة أيضًا إبراهيم عوض، أستاذ بقسم السياسة العامة والإدارة بكلية السياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكيّة بالقاهرة، والذي أوضح أن غزة كانت بالفعل محرّكًا لأحداثٍ مفصليّة عديدة في المنطقة كالتدخّل السوفيتيّ مثلًا. للتّوضيح، عادَ بِنا عوض إلى فترة الخمسينيّات عندما هاجم الاحتلال غزّة، وهي لا تزال تحت الإدارة المصريّة.
في تلك الفترة لم تستطع مصر الحصول على أي مساعدات عسكريّة أو أسلِحة من الولايات المتّحدة، وقرّرت اللجوء إلى الاتحاد السوفيتي للحصول على الإمدادات التي تحتاجها. فكانت غزّة في هذه الفترة وسيلةً ساعدت على دخول الاتحاد السوفيتي مسرح الأحداث السياسيّة في المنطقة، وأضاف عوض أنّه بدأ بالفعل تحليلَ هذا الحدث الذي لم يفكّر به الكثير في الفترةِ الأخيرة.
قال عوض، “عُقِدَت صفقة الأسلحة التشيكية المصريّة وكانت هذه بدايةً لما أسمّيه تعاوُن بين مصر والاتحاد السوفييتي، وغيّرت هذه الخطوة فيما بعد أسلوب مصر وغيرِها من دول المنطقة في التعامل مع القضيّة الفلسطينيّة”.
لم يكُن هذا الحدث وحدَه ما يثبُت أهميّة غزّة في تغييرِ مجرى الأحداث؛ فقد ذكر عوض أيضًا أنّ شرارة الانتفاضةِ الأولى عام ١٩٨٧ بدأت من غزّة التي انخرط سكّانها بشكلٍ مباشرٍ في الإضراب والاحتجاجاتِ اليوميّة.
أكّد عوض ما ذكَره بيليد سابِقًا؛ حيث قال إنّ وجودَ نسبةٍ كبيرةٍ من اللاجئين الذين يعيشون في مخيّماتٍ في غزة قد يكونُ أحدَ الأسبابِ الرئيسيّة التي تجعلُ المدينة تحديًّا كبيرًا للاحتلال؛ فبعضُ هؤلاء اللاجئين يعيشون على بُعد مسافةٍ قريبةٍ من قراهُم التي هُجِّروا مِنها.
أضاف عوض، ” تواجد هذا العدد الكبير من اللاجئين الفلسطينيّين داخل مساحةٍ صغيرة تحتَ ظروفٍ إنسانيّة صعبة يعمّق الهويّة الفلسطينيّة، ويعزّز الحسّ الوطنيّ تجاه بلادِهِم”.